
في حضرة الآثار المهجورة!

مدحت نافع
08 فبراير 2018
فى البداية لم أصدق أننا قد نزلنا بمطار الأقصر! المطار شبه خالى من البشر، تستطيع أن تستمع بوضوح إلى صوت الأوراق التى يعبث بها أحد العاملين فى أقصى جنبات صالة الوصول والبادى على وجوههم السأم من ندرة العمل. ليست هذه هى الأقصر التى كانت أشهر الشتاء بمثابة إعلان مفتوح لاستقبالها آلاف السائحين من كل مكان. ليست هذه هى الأقصر التى كان يختلط على السائر بشوارعها أمر هويتها من كثرة تنوّع جنسيات المقيمين والزائرين.
الأزمة أكبر من تهديدات أمنية تم استغلالها من قبل العديد من الدول للحد عمداً من أعداد السائحين الذين تعمر بهم مزارات مصر السياحية الهامة وعلى رأسها مدينة الأقصر المستأثرة وحدها بثلث آثار العالم! التهديدات الأمنية لم تعد حكراً على بلاد المنطقة، وامتدت مخاطرها إلى منهاتن الأمريكية وقلب العاصمة الفرنسية باريس ومطارات ألمانيا ومحطات قطاراتها.. والقائمة تعجز العادّين.
لا ألمس جهوداً حقيقية من قبل محافظة الأقصر لتنشيط السياحة بعيداً عن التصريحات التقليدية. لم ألمس خروجاً عن النمط الممل فى تضييع أزمة السياحة بين التآمر الغربى ونجاح الإرهابيين فى مهمتهم لاغتيال كل صور الحياة! لماذا تحوّلت تلك المدينة إذن إلى محافظة مستقلة لو لم يكن الهدف هو تكثيف الجهود للتنمية السياحية التى هى المورد الأهم والأكبر للمحافظة الناشئة.
مهمة التنمية السياحية فى مصر يجب أن تكون أسهل كثيراً من مهام تنمية السياحة فى دول لا تتمتع بنسبة من عناصر الجذب السياحى المتزاحمة فى شريط الوادى الضيق، والمكدّسة فى بعض مدن الصعيد بشكل لا نظير له فى العالم أجمع. عليك أن تسوّق جيداً لسلعة ذائعة الصيت، وأن تحفظ لجمهور المستهلكين لتلك السلعة (أو بالأحرى الخدمة) حظاً من الأمن والسلامة وسهولة التنقّل والإقامة الممتعة.
عليك أن تتأكد من حوادث سخيفة مثل الموت فى بالونات الترفيه لا تحدث أبداً، ناهيك عن حدوثها مرتين! عليك أن تجتذب الشركات العالمية المتخصصة فى التننشيط السياحى، وأن توفّر للمدينة اكتفاءً ذاتياً من خدمات النقل والأمن والإقامة بمستويات عالمية سرعان ما سوف تعود عليك أضعافاً مضاعفة من الإيرادات السياحية المستهدفة لشرائح متميزة نم السائحين وليس سائحى زجاجات المياه الذين يحرصون على شراء المياه المعبأة من بلادهم حتى لا ينفقون مليماً واحداً فى مصر!
مهمة التنمية السياحية فى مدن الصعيد تعنى تنمية شاملة بكل المعانى. تنمية يصيب منها المجتمع كله سهماً من السعة والرزق، وأسهماً من مخالطة الغير واغتنام وفورات التنوّع الثقافى، التى بنيت على أسسها كبرى الحضارات. التطلع إلى محاكاة الآخر المتقدم يرفع من فرص سكّان تلك المناطق لتحسين مستويات المعيشة والحصول على مستويات متقدمة من التعليم والخدمات الصحية فضلاً عن الاستفادة من محاكاة ما يتفق من نمط معيشة السائحين وعادات الصعيد الراسخة عبر القرون، وهى أمور ترفع من تنافسية العامل المصرى وتجعله أكثر قدرة على مواجهة تحديات السوق التى لا ترحم.
مطار الأقصر كان شاحباً حزيناً بعد انتهاء عطلة نصف العام، وكأن شريحة الطلاب المصريين وأسرهم هى الوحيدة التى تستهدفها المقاصد السياحية العظيمة فى تلك المدينة.
بعد أن انتهيت من رحلة عمل لى بنجع حمّادى، عرّجت على مدينة إدفو لاستكمال رحلة العمل الخاطفة، وكان علىّ أن أوفّر ساعتين لزيارة أثر هام وجميل فى هذه المدينة الوادعة، وهو معبد إفو. المعبد عظيم فى كل شئ هو أكمال المعابد التى تم اكتشافها بفضل "ماريوت" فى ستينات القرن التاسع عشر. وجد كاملاً مكتملاً لا لشئ إلا لكونه ظل قروناً مطموراً تحت الرمال التى حفظته (خلا سقفه الذى تضرر بفعل من سكنوا فوقه) من عوامل التعرية والسرقات والعبث. صحيح أن هناك الكثير من التشوهات التى تعرّضت لها النقوش، علمنا من مدير المتحف أنها كانت خلال فترة اضطهاد الأقباط الذين اتخذوا من معابد الصعيد أديرة وكرهوا أن تضر تلك النقوش والتماثيل والمنحوتات بعقيدتهم الوليدة. حتى معبد إفو كان خالياً من الناس! أخبرنى أحد سكان إفو أنه لم يكن يستطيع أن يتحرك بحرية داخل المعبد من فرط تكدّس السائحين! انتظرت ريثما يبدأ عرض الصوت والضوء وكأن الله أراد أن يختم يومى بسرور، أدخله علىّ مشهد المئات من السيّاح اليابانيين، الذين جاءوا بالحناطير من مراكبهم النيلية الضخمة المستقرة على الضفة الغربية من نيل إدفو حتى يشهدوا عرض الصوت والضوء بالمعبد التليد المشيّد فى بداية العهد البطلمى بسواعد وفنون مصرية خالصة.
انشغلت بأمر قد يبدو هيناً فى سياق الإتقان المصرى العظيم الذى وقفت بحضرته غير مرة وكل مرة وكأنها الأولى. انشغلت بسياج حديدى خفيف أشبه بالسلك العازل للبعوض فى منازلنا ولكنه أكثر سمكاً، وقد أحاط ذلك السياج بالجزء العلوى من المعبد لحماية النقوش المحافظة على ألوانها فوق ألفى عام من هجوم الطيور وخاصة الحمام الجبلى. هذا السياج وضع فى عام اكتشاف المتحف نحو عام 1860 وظل متماسكاً بغير ثقوب حتى يومنا هذا! ما هذا الإتقان فى الصنعة؟! الأمر لا يقتصر إذن على أجدادنا الذين عاشوا فى حكم الفراعنة، ولكن آباءنا فى عهود حديثة نسبية قد أتقنوا صناعتهم وحكّموا ضمائرهم كما لم نعد نشهد فى عصرنا الحالى البائس! الإشراف أجنبى فى الغالب، لكن الصنعة مصرية والمواد المستخدمة خرجت من أراضى مصرية، فماذا حدث للمصريين؟!